فصل: ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ثم دخلت سنة اربع وخمسين وأربعمائة

أنـه خـرج فـي يـوم الخميـس غـرة صفـر أبـو الغنائـم بن المحلبان إلى باب السلطان طغرلبك من الديوان العزيز بالإجابة إلى الوصلة‏.‏

وكان السبب أن الكتب وردت من السلطان إلى بغداد وواسط والبصـرة بإدخـال اليـد فـي الاقطـاع المفـردة لوكـلاء الـدار العزيـزة والحواشـي الأصحـاب وإلى أصحاب الأطراف وغيرهم بتعديد ما فعل من الجميل دفعة وما كان من المقابلة في الرد عما وقعـت الرغبة فيه على أقبح حال وخرج الكلام في ذلك إلى ما ينافي قانون الطاعة ومقتضى الخدمة وقطعت المكاتبة إلى الديوان ووصل الكتاب إلى قاضي القضاة عنوانه‏:‏ إلى القضاة من شاهنشـاه المعظـم ملـك المشـرق والمغـرب محيـي الإسلـام خليفـة الإمـام يميـن خليفـة الله أمير المؤمنيـن فكان في الكتاب أن قاضي القضاة يعلم أن تلك الوصلة لم تكن جفوة قصدناها حتى يستوجب قبح المكافأة على جميع ما قدمناه من الؤاثرات وإن كنا لا نؤهـل للإجابـة ولانحـض بالمساءة وليس يخفى على العوام مـا قدمنـاه مـن الاهتمـام وأوجبنـاه مـن الإنعـام وأظهرنـاه مـن التذلل والخضوع الذي ما كان لنا به عهد ظننا بإننا نتقرب إلى الله تعالى بذلك فصارت كلها وبـالًا علنيـا ولكنـا واثقـون بصنـع اللـه تعالـى أنـه لا يضيـع جميـل أفعالنـا ونـرى سـوء المغبًة لمن يضمر لنا سوءًا فينا واقتضى الرأي استرداد جميع ما كان للديوان الخاص وقصر أيدي وكلاء تلك الجهة عنها ليقصروا على ما كان لهم يوم وردت راياتنا العراق فيجب أن نشير عليهم بالتخلية عنها

وترك المراجعة فيها فإنها لا تفيد غير الجدال والنزاع وقد خاطبنا الشيخ الزكي أبا منصور بن يوسف بكتاب أشبعنـا فيـه القـول فيجـب أن يتأملـه ويعمـل بـه لئـلا يتكـرر الكلـام والسلـام وكتب في منتصف شعبان سنة ثلاث وخمسين‏.‏

ثـم مازالت المشورة على الخليفة بما في هذا الأمر قبل أن لا يتلافى فعين على أبي الغنائم بن المحلبـان فـي الخـروج إلـى السلطـان واستسلـال مـا حصـل فـي نفسـه فقـال‏:‏ متـى لـم يقترن بخروجي إليه إجابته إلى غرضه من الوصلة كان قصدي زائدًا في غيظه وتوقف عن الخروج ودافع واتسع الخرق بما قصد به الخليفة من الأذى فأجاب حينئذ مكرهًا بعد أن يمنع ثلاث سنين وكتب وكالة لعميد الملك في العقد وأذن في الوصول لقاضي القضاة أبي عبد الله الدامغانـي أبـي منصور بن يوسف حتى شهدا بما سمعاه من الإجابة وخرج أبو الغنائم وورد بعد خروجه بخمسة أيام ركابية بكتب تتضمن ردالأقطاع إلى وكلاء الدار العزيزة وكثر الاعتذار مما جرّه سوء المقدار من تلك الأسباب المكرومة والتقدم بإنفاذ أبي نصر بن صاعد رسولًا بخدمـة وهديـة ومشافهـة بالتنصل مما جرى وشاع هذا فطابت النفوس ووقعت البشائر في الدار العزيزة وخلع منها على الركابية وضربت الدبادت والبوقات بين أيديهم وطيف بهم في البلد وأعيد الاقطاع إلى أيدي الوكلاء‏.‏

وورد كتاب من عميد الملك إلى أبي منصور بن يوسف يخبره بأن تلك اللوثة زالت من غير مذكر بل برأي رآه السلطان حسمًا لقالة تظهر أوعدو يشمت وكوتب أبو الغنائم بن المحلبـان بالتوقـف حيـث وصـل مـن الطريـق إلـى أن يصل أبو نصر بن صاعد ويصدر في صحبته على ما يقتضيه جوابه ورسم له طي ذلك وستره فوصله الأمر وهو بشهرزور فأقام متعللًا بالأمطار والثلوج وجرح ساقه ثم أظهر أن مادة قد نزلت فمنعته من الركوب‏.‏

وفـي ربيـع الـأول‏:‏ وكـان ذلك في السابع عشر من آذار ورد سيل شديد ليلًا ونهارًا فوقف الماء في الدروب وسقطت منه الحيطان واتصل المطر والغيم بقية آذار وجميع نيسان حتى لم يجد يوم ذاك وكان في أثنائه من البرد الكبار ما أهلك كثيرًا من الثمار ووزنت واحدة فإذا فيها رطل وتحدث المسافرين أنه كان مثل ذلك بفارس والجبال وأعمال الثغور وأنه قد ورد مطر بسنجار ثمانين يومًا متولية ما طلعت فيها الشمس وجاء سيل على حلة الأطـراد فأقلعتهـا وشوهدت الخيل المقيدة غرقى على رأس الماء‏.‏

وفي هذا الشهر‏:‏ زادت دجلة فبلغت الزيادة إحدى وعشرين ذراعًا ورمت عدة دور وعلمت السكور على نهر معلى وباب المراتب وباب الأزح والزاهر وخرج الخليفة من بـاب البشرى إلى دجلة ليلًا وغمس القطيب النبوي في الماء دفعتين فكان ينقص ثم يزيد بعد‏.‏

وزادت تامرا اثنين وعشرين ذراعًا وكسرًا وكانت زيادته المعروفة ثمانيـة وتفجـرت فيـه بثوقـه ودار الماء من جلولا وتامرا على الوحش فحصرها فلم يكن لها مسلك فكـان أهـل السـواد يسبحون فيأخذونه بأيديهم فيحصل للواحد منهم في اليوم مائتي رطل لحمًا‏.‏

وفي ربيع الآخر‏:‏ عطلت المواخير وغلقت ونودي بإزالتها وكان السبب أنه كثر الفساد وشرب الخمر وشرب رجل يهودي وتغنى بالقرآن‏.‏

ولما طالت أيام أبي الغنائم بن المحلبان في تأخره ببلد شهرزور عن السلطان علم أنـه أمـر بالتوقف فحرك الخليفة بأن أنفذ كتابًا إلى الجهة الخاتونية مع جابر بن صقلاب يتضمن اشتياقًا إليها يتضمن اشتياقًا إليها وإيثارًا لمشاهدتها ورسم لها المسير إليه والخروج من دار الخلافة على الخلافـة علـى أي حـال أوجبتـه ومضيـق العـذر فـي التأخـر وكتـاب إلـى الحاجـب ترمـس بملازمتهـا إلـى أن تسيـر وتـردد الخطـاب فـي السبـب الموجـب لذلـك إلـى أن أفصـح به ابن صقلاب وأنه بسبب تأخر الغنائم بن المحلبان فقيل‏:‏ إنما توقف لانتظارنا ابن صاعد الرسول الذي ذكرتم إنفاذه إلى بابنـا لنسمـع رسالتـه ويكـون إنفاذهمـا جميعـًا وحيـث تأخـر ذلـك وأوجـب هـذا الاستعشـار فنحن نكاتب ابن المحلبان ونأمر بالإتمام ففعل ذلك وفـي يـوم الخميـس ثالـث عشـر شعبـان‏:‏ كـان العقـد للسلطان على السيدة بنت الخليفة بظاهر تبريز فكتـب ابـن المحلبـان إلـى الخليفة يخبره أنه عمل سماط عظيم وأنه قرأ نسخة التوقيع الشريف إلى السلطان على الناس والسلطان حاضر وأنه سلم الوكالة إلى عميد الملك فقبلها ورفع يده بها إلـى السلطـان حاضـر فقـام عنـد مشاهدتهـا وقبلها وقبّل الأرض ودعا ثم أعادها إلى عميد الملك فقرأها وقد رسم فيها تعيين المهر وهو‏:‏ أربعمائة ألـف دينـار فارتفعـت الأصـوات بالدعـاء للخليفـة وعقـد العقـد ونثـر الذهـب واللؤلـؤ وتكلـم السلطـان بمـا معنـاه الشكر والدعاء وأنه المملوك القن الذي قد سلم نفسه ورقة وما حوته يده وما يكسبه باقي عمـره إلـى الخدمـة الشريفة‏.‏

ونفذ في شوال خدمة للديوان العزيز تشتمل علـى ثلاثيـن غلامـًا أتراكـًا علـى ثلاثيـن فرسـًا وخادمين وفرس وبمركب وسرج من ذهب مرصع بالجواهر الثمينة وعشرة آلاف دينار للخليفة وعشرة آلاف دينار لكريمته وعقد جوهر فيه نيف وثلاثون حبة في كل حبة مثقال وجميع ما كان لخاتون المتوفاة من الاقطاع بالعراق وثلاثة آلاف دينار لوالدتها وخمسة آلاف للأمير عدة الدين فتولت أرسلان خاتون تسليم ذلك ووردت الكتب في ذي القعدة بتوجيه السلطان إلى بغداد‏.‏

وفـي ذي الحجـة‏:‏ كثـر الإرجـاف بالسلطان طغرلبك ووفاته واختلط الناس إلى أن جاءت البشارة وفي ذي هذه السنة‏:‏ عم الرخص جميع الأصقاع وبيـع بالبصـرة كـل ألـف رطـل تمـر بثمانيـة قراريط‏.‏

وفيها‏:‏ عزل أبو الفتح محمد بن منصور بن دارست عن وزارة القائم وأقبل أبو منصور محمد بن محمد بن جهير من ميارفارقين وقد سفر له في الوزارة تقلدها ولقب فخر الدولة شرف الوزراء‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

ثمال بن صالح معز الدولة صاحب حلب كان كريمًا فأغنى أهل البلد وكان حليما بينا الفراش يصب عليه ضربت بلبلة الإبريق ثنيته فسقطت في الطست فعفا عنه فقال عنه فقال له ابن أبي حصينة‏:‏ وسن العدل في حلب فأخلت بحسن العدل بقعته البقاعا حليـم عن جرائمنا إليه وحـي عـن ثنيتـه انقلاعا مكـارم مـا افتـدى فيهـا بخلـق ولكن ركبت فيه طباعـا

الحسن بن علي بن محمد أبو محمد الجوهري ابن المقنعي أخبرنا ابن ناصر عن أبي محمد بن طاهر المقدسي قال‏:‏ سمعتهم يقولون ان أول من يضع تحت العمامة كما يفعل العدول اليوم ببغداد ولد الحسن في شعبان سنة ثلاث وستين وثلثمائة وكان يكن درب الزعفراني وهو شيرازي الأصل وسمع الكثير وكان يسكن درب الزعفرانـي وختـم الإسناد وهو آخر من حدّث عن أبي بكر بن مالك القطيعي وابن صالح الأبهري وابن العباس الوراق وابن شاذان وابن أيوب القطان وابن إسحاق الصفار وعـن أبـي الحسـن ابـن كيسـان النحوي وابن لؤلؤ أبي الحسن الجراحي وابن إسماعيل الأنباري وابن وأبي عزة العطار وابن العبـاس الرفـاء وابـن أبي القصب الشاعر وأبيه أبي الحسن الجوهري وعن أبي عبيد الله الحسين بن الضراب وابن مروان الكوفي وابن مهدي الـأزدي وابـن عبيـد الدقـاق وعـن أبـي القاسـم الخرقي وابن جعفر المقرىء وطلحة الشاهد وعن أبي جعفر بن الجهم الكاتب وابن العباس الجوهري وعن أبي محمد بن عبد الله بن ماهود الأصبهاني وعبد العزيز بن أبي صابر وعن أبي علي العطشي والفارسي وعن أبي العباس بن حمزة الهاشمي وابن مكـرم المعـدل وعـن أبي الحسن بن يعقوب المقرىء وأبي حفص جعفر بن علي القطان وأبي سعيد بن الوضاح‏:‏ وكـان ثقـة أمينـًا وتوفـي فـي ذي القعـدة مـن السنـة ودفـن فـي الجانب الشرقي من مقبرة باب أبرز‏.‏

الحسيـن بـن أبـي زيـد أبو علي الدباغ واسم أبي زيد‏:‏ منصور وأصله من الصّغد‏.‏

سمع سيفان بن عيينة ووكيعًا وأبا معاوية في آخرين روى عنه الباعندي وكان من الثقات‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب أخبرنا محمد بن نعيم الضبي قال‏:‏ سمعت أبا بكر محمد بن جعفـر يقـول‏:‏ سمعـت أبـا الحسـن السـراج يقـول‏:‏ سمعـت الحسيـن بـن أبـي زيـد يقـول‏:‏ رأيـت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يحييني على الإسلام فقال‏:‏ إيه والسنة وجمع إبهامه وسبابته وحلق حلقه وقال ثلاث مرات‏:‏ والسنة والسنة والسنة‏"‏‏.‏

سعد بن محمد بن منصور أبو المحاسن الجرجاني كـان رئيسًا في أيام والده في سنة عشر وأربعمائة فدرس الفقه وتخرج على يده جماعة وروى الحديث ووجه رسولًا إاى محمود بن سبكتكين فخرج وعقد له مجلس النظر في جميع البلدان بنيسابور وهراة وغزتة وقتل ظلمًا باستراباذ في رجب هذه السنة رحمه الله وإيانا وجميع المسلمين آمين‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها أن السلطان وصل إلى ازاء القفص فعزم الخليفة على تلقيه فاستعفى فأعفي من ذلك فأخرج إليه الوزير أبو منصور فلما دخل العسكر نزلوا في دور الناس وأخرجوهم وأوقدوا أخشاب الدور لبرد عظيم كان وكانوا يتعرضون لحرم الناس حتى إن قومـًا مـن الأتـراك صعـدوا إلـى جامات حمام ففتحوها وطالعوا النساء ثم نزلوا فهجموا عليهن فأخذوا من أرادوا منهن وخرج الباقيات عراة إلى الطريق فاجتمع الناس وخلصوهن من أيديهم فعلوا هذا بحمامين‏.‏

وجاء عميد الملـك إلـى دار الخلافـة وخـدم عـن السلطـان فأوصلـه الخليفـة وخاطبـه بالجميـل وأعطاه عدة أقطاع ثياب تشريفًا له وتردد الخطـاب فـي نقـل الجهـة إلـى دار المملكـة وبعـث السلطـان إلـى الجهـة بخاتمـه وكـان ذهبـًا وعليـه فـص مـاس وزنه درهمان وبعث جبتين في سستحة ولـازم عميـد الملك المطالبة بها حتى بان في هذه الوصلة التشرف بها والذكر الجميل وكنا نقول لك‏:‏ إننا مانمتنع من ذاك إلا خوفًا من المطالبة بالتسليم وجرى مـا قـد علمتـه ثمأخرجنـا ابـن المحلبان وقرر معكم

قبل العقد ما أخذ به خطك وأنه إن كان يومًا ما يطالبه برؤية واجتماع كان ذلك الدار العزيزة النبوية ولم يسم إخراج هذه الجهة من دارنا فقال عميد الملك‏:‏ هذا جميعه صحيح والسلطان مقيم عليه وعازم على الانتقال إلى هذه الدار العزيزة حسب ما استقر وهو يسأل أن يفرد لحجابه وغلمانه وخواصه فيها مواضع يسكنونها فمـا يمكنـه بعدهـم عنـه فقطـع بهـذا الكلـام الحجة ثم راجع وكرر إلى أن استقر انتقالها إلى دار المملكة على أن لا تخرج من بغداد وان تكـون بهـا إذا سافـر السلطـان وأحضـر قاضي القضاة الدامغاني حتى استخلفه على الاجتهاد في ذلك‏.‏

وحمل السلطان إلى الخليفة مائة ألف دينار ومائة وخمسين ألف درهم وأربعة آلاف ثوب فيها عشرة طميم كل ذلك منسوب إليه‏.‏

وفـي ليلـة الإثنين خامس عشر صفر‏:‏ زفت السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة ونصب لها من دجلة إلى الدار سرادق وضربت البوقات والدبادب عند دخولها الدار فجلست على سرير ملبس بالذهب ودخل السلطان إليها فقبّل الأرض لها وخدمها وشكر الخليفة وخرج من غير أن يجلس ولا قامت له ولا كشفت برقعًا كان على وجهها ولا أبصرته وكان السلطان والحجّاب ووجوه الأتراك يرقصون في صحن الدار فرحًا وسرورًا وأنفذ لها مع أرسلان خاتون وكانت

قد مضت في صحبتها عقدين فاخرين وقطعة ياقوت أحمر كبيرة ودخل من الغد فقبّل الأرض وخدمها وجلس على سرير ملبس بالفضة بإزائها ساعة ثم خرج وأنفذ إليها جواهـر كثيـرة مثمنة وفرجية نسيج مكللة بالحـب ومـازال علـى مثـل ذلـك كـل يـوم يحضـر ويخـدم فظهـر منهسـور شديد من الخليفة تألم لما ألزمه من ذلك وخلع السلطان في بكرة يوم الثنين على عميد الملك وزاد فـي ألقابـه جـزاء علـى توصلـه إلـى هـذا واتصـل في دار المملكة السماط أسبوعًا ثم كان في يوم الأحد لتسع بقين من الشهر سماط كبير وخلع على جميع الأمراء‏.‏

وفي يوم الخميس تاسع ربيع الأول‏:‏ حضر عميد الملك بيت النوبة واستأذن للسلطان طغرلبك في الانصراف وللسيدة خاتون في المسير صحبته وأنه يستردها مدة ستة أشهر فأذن الخليفة للسلطان ولم يأذن لأرسلان وقال‏:‏ هذا لا يحسن‏.‏

وتردد من المراجعة ما أدى إلى إذن الخليفة فيه وكانت شاكية من إطراحه لها وأنه لم يقرب منها اتصل إليها‏.‏

وأنفـذ للسلطان في يوم السبت حادي عشر الشهر خلع من حضرة الخليفة وخرج من الغد وهو ثقيـل مـن علتـه مأيـوس مـن سلامتـه واستصحـب السيـدة ابنـة الخليفـة معـه بعـد أن امتنعـت فألزمها لم يصحبها من دار الخلافة إلا ثلاث نسوة برسم خدمتها ولحق والدتها من الحزن ما لم وفـي ليلـة الإثنيـن لخمـس بقيـن مـن ربيـع الآخـر‏:‏ انقـض كوكـب كبيـر كـان لـه ضـوء كبير وفي صبيحته جاءت ريح ومطر فيه برق متصل لحق منه قافلة وردت من دجيلة عند قبر الإمام أحمد بن حنبل ما أحرق واحدًا من أهلها فمات من وقته كان الموضع الذي احتراق من جسمه وثوبه أبيض لم يتغير القميص في منظر العين ووجدوه عند مسه هباء منثورًا‏.‏

وفي ليلة الأربعاء لثمان بقين من شعبان‏:‏ رأت امرأة هاشمية في منامها النبي صلى الله عليه وسلـم وعلـي بـن أبـي طالـب فـي مسجـد صغيـر بالمأمونيـة مـن الحريم الشريف فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مريهم أن يعمروا هذا المسجد ‏"‏ فقالت‏:‏ لا يصدقونني فـي رؤيتـي لكـم فمـد يـده إلـى حائـط عقـد هنـاك قديم مبني بالجص والآجر وهو من أحد حيطان المسجد وجر آجرة من وسطها حتى برز بثلثها وقال لها‏:‏ ‏"‏ هذا دليل على صدق قولك وصحة رؤياك ‏"‏‏.‏

وفي هذا الشهـر‏:‏ كانـت زلزلـة بأنطاكيـة واللاذقيـة وقطعـة مـن بلـاد الـروم وطرابلـس وصـور وأماكن من الشام ووقع من سور طرابلس قطعة‏.‏

وورد الخبـر بمـوت طغرلبـك إلـى بغـداد مـن جهة السيدة ابنة الخليفة ليلة الأحد الرابع والعشرين من رمضـان وشرى العيارون بهمذان فقتلوا العميد وسبعمائة رجل من أصحاب الشحنة وأحضروا المخانيث بالطبول والزمور وأكلوا نهارًا وشربوا على القتلى وكانوا كذلك بقية الشهر‏.‏

ولما توفي طغرلبك بعث إلى عميد الملك الكندري وكان على سبعين فرسخًا فجاء قبل أن يدفن وأخذ البيعة لسليمان بن داود بن أخي طغرلبك وكان طغرلبك وكان طغرلبك قد نص عليه وحط من القلعة سبعمائة ألف دينار وكسر وستة عشر ألف ثوب من ديباج وسقلاطون وسلاحًا تساوي مائتي ألف دينار وكسر فسكن الناس ولم يبق لهم خوف إلا من الملك ألب أرسلان وهو محمد بن داود فإن العسكر مالوا إليه‏.‏

وانتشرت في هذه الأيام الأعراب في سواد بغداد وما حولها وقطعوا الطرقات وأخذوا ثياب النـاس حتـى فـي الزاهـر وأطـراف البلـد واستاقـوا مـن عقرقوف من الجواميس ما قيمته ألوف دنانير وتحـدث النـاس بما عليه مسلم بن قريش من دخول بغداد والجلوس في دار المملكة وحصار دار الخلافة ونهبها فانزعج الناس وتعرض مسلم للنواحي الخاصة جميعها وقـرر علـى أهلهـا مـالًا ونهب من امتنع من ذلك ونهب المواشي والعوامل وامتنعت الزاعة إلا على المخاطـرة وكثـرت استغاثة أهل السواد على الأبواب العزيزة وخرج العسكـر لمقاومتـه فبعـث يعتـذر ويقـول‏:‏ أنـا الخـادم وكـان عميـد الملـك قـد طالـب الجهة الخليفية بجواهر كانت للسلطان معها وذكر زيادة قيمتها وحاجته إلى صرفها إلى الغلمان فأنكرت ذلك فاعترض نواحيها كذلك وأقطاعها ثم استظهر عليها‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ وقع موتان بالجدري والفجأة ونقض في هذا الوقت الدور الباقية بمشرعة الزوايا والفرضة ومن بقايا المسنيـات والـور الشاطيـة وغيرهمـا شـيء كبيـر وأخـذت أخشـاب الدور وحملت الأنقاض إلى الخليفة فكانت عدة الدور ذوات المسنيات في الماء في سنة سبع وأربعين وأربعمائة عند دخول طغرلبك إلى بغداد مائة ونيّفًا وسبعين دارًا‏.‏

ووقع الوباء بمصر وكان يخرج منها في اليوم الواحد نحو ألف جنازة وقبض على أبي الفرج المغربي وزير مصر ونظر أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلي مدة ثم عزل‏.‏

وفيها دخل صاحب اليمن مكة فأحسن السيرة وجلب إليها الأقوات وفعل الجيل‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

الحسن بن علي بن علي بن حزام

أحمد بن علي أبو نصر الجذامي ورد بغداد وتفقه على أبي حامد الأسفرائيني وسمع المخلص وانحدار إلى البصرة فسمع سنن أبـي داود مـن القاضـي أبـي عمـر الهاشمي وحدّث بالكثير وكان يرجع إليه في الفتاوى والمشكلات وتوفي بسرخس‏.‏

صاحب آمد توفي في هذه السنة وقيل إن أبا الفرج الخازن سقاه السم باتفاق من نصر بن سعيد صاحب ميافارقين فأحس سعيد وأمر بقتل أبي الفرج فقطع قطعًا‏.‏

محمد بن أحمد بن محمد بن حسنون أبو الحسين القرشي ولد في صفر سنة سبع وستين وتوفي في يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر هذه السنة قال أبو الفضل بن خيرون‏:‏ هو ثقة ثقة ثقة‏.‏

محمد بن ميكائيل بن سلجوق أبو طالب السلطان الذي يقال له‏:‏ طغرلبك‏.‏

وأصله من جيل من التركمان وكان ابن سلجوق قد زوج ابنته من رجل يعرف بعلي تكين فاستفحل أمرهما وأفسدا على محمود بن سبكنكين فقصدهما فأما علي تكين فأفلت من محمود وأما ابن سلجوق فقبض عليه محمود وحصل من أصحابه أربعة آلاف خركاه منتقلة في البلاد وتوفي محمود فاشتغل ابنه مسعود بلذاته فاجتمع أصحاب ابن سلجوق وشنوا الغارات على سواد نيسابـور واستولـى العيـارون علـى نيسابـور فوردهـا طغرلبـك فهذبهـا فمـال إليـه المستورون فحصـل الأمـوال فسـار مسعـود للقـاء طغرلبـك حيـن استفحـل أمـره فالتقيـا فانهـزم مسعـود واستولـى طغرلبـك علـى خراسـان وذلـك فـي سنـة ثلاثين وولى أخاه لأمه إبراهيم ينال بن

يوسف قهستان وخراسان وقصد بنفسه الري فخربها أصحابه ووقع على دفائن وأموال وفتح أصبهاني سنة ثلاث وأربعين واستطابها وعول على أن يجعلها دار مقامه ونقل إليها أمواله من الـري وولـى أخـاه داود فـي سنـة ثلاثيـن مـرو وسرخـس وبلـخ إلـى نيسابـور وولـى ابن عمه الحسن بن موسى هراة وبوشنج وسجستان‏.‏

وكـان قـد كتـب إلـى دار الخليفـة فـي سنـة خمس وثلاثين كتابًا إلى عميد الرؤساء الوزير وخاطبه بالشيـخ الأجـل أبـي طالـب محمـد بـن أيـوب فمـض فـي الجـواب إليـه مـن دار الخلافة أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي ولقيه بجرجان فاستقبله على أربعة فراسخ إجلالًا لرسالة الخليفة ثم أعطاه على التشريف الذي صحبه ثلاثين ألف دينار وعشرين ألفًا للخليفة وعشـرة آلـاف لحواشيه وسارت عساكر طغرلبك إلى الأهواز فنهبوها ثم قدم بغداد وجلس له القائم وفوض إليه الأعمال وخاطبه بملك المشرق والمغرب‏.‏

وطغرلبك أول ملك من السلجوقية وهو الذي بنى لهم الدولة وكان مدبرًا حكيمًا يطلع على أفعال تسوءه فلا يؤاخذ بها ولقد كتب بعض خواصه سوء سيرته إلى أبي كاليجار فرأى الملطفة ولم يعاتبه وبعث إليه ملك الروم أموالًا كثيرة‏.‏

وقد ذكرناها فيما تقدم وذكرنا أحواله على ترتيب السنين وكيف ردّ القائم من حديثة عانة

وتوفي بالري يوم الجمعة ثامن رمضان هذه السنة وكانت مملكته ثلاثين سنة وعمره سبعين‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها أنه لما أفسدت الأعاريب في سواد بغداد وأطرافها حملت العوام السلاح لقتالهم وكان ذلك سببًا إلى كثرة العيارين وانتشارهم في محرم هذه السنة‏.‏

ووقع الإرجاف بأن السلطان ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل وارد إلى بغداد فغلت الأسعار ثم ورد الخبر أن السلطان ألب أرسلان قبض على عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد بن الكندري في عشية يوم السبت السابع من المحرم وأخذ ماله ثم أنفذ إلى مرو الروذ واعتقل بها وخلع على وزيره نظام الملك أبي علي الحسن بن إسحاق الطوسي في ذلك اليوم وروسلـت السيـدة ابنـة الخليفـة فـي الحـال بالـإذن لهـا فـي المسيـر إلـى بغداد وأنفذ إليهما خمسة آلاف دينار للنفقة فأبت أن تقبل فقبح عليها أن ترد فقبلت ووصلت إلى بغداد عشية يوم الأحد ثالث عشر ربيع الآخـر واجتمـع العـوام لمشاهـدة دخولهـا فدخلـت ليـلًا وكـان فـي صحبتهـا القاضي الدامغاني أن يكون جلوس هذا القاضي الوارد دونه فلم يجب وأمر أن يجلس علـى روشن بيت النوبة بمعزل من المجلس فقـام هـذا القاضـي فخطـب خطبـة وصـف فيهـا ألـب أرسلان وشكر وزيره نظام الملك ثم جلس وسلم الكتـب الواصلـة معـه وكانـت كتابيـن إلـى الخليفة وكتابًا إلى الوزير فخر الدولة أبي نصر بن جهير فخرج الجواب يتضمن شكر السلطان ألب أرسلان والاعتداد بخدمته في تسيير السيدة وتقدم إلى الخطباء بإقامة الدعوة فقيل في الدعاء‏:‏ اللهم أصلح السلطان المعظم عضد الدولة وتاج الملة أبا شجاع ألب أرسلان محمد بن داود فبعث عشرة آلاف دينار وزنًا ومائتي ثوب إبريسمية أنواعًا وحوالة على الناظر ببغداد بعشرة آلالف أخرى وعشرة أفـراس وعشـرة بغلـات وقيـل للسلطـان فـي عميـد الملـك وأنـه لا فائـدة في بقائه فإنه غير مأمون أن يفسد فأمر بالمكاتبة إلى مقدم مرو الزوذ بقتله وصلبه وأنفذ ثلاثة غلمانه لذلك‏.‏

وبيعت في هذا الزمان دار بنهر طابق بثلاثة قرايط وبيعت دار بواسط بدرهم‏.‏وفـي ربيـع الـأول‏:‏ شـاع ببغداد أن قومًا من الأكراد خرجوا متصيدين فرأوا في البرية خيمًا سودًا سمعوا فيها لطمًا شديدًا وعويلًا كبيرًا وقائلًا يقول‏:‏ قد مات سيدوك ملك الجن وأي بلد لم يلطـم بـه عليـه ولـم يقـم فيـه مأتـم قلـع أصلـه وأهلـك أهلـه فخـرج النسـاء العواهـر مـن حريـم بغـداد إلـى المقابر يلطمن ثلاثة أيام ويخرقن ثيابهن وينشرون شعورهن وخرج رجال من السفساف يفعلون ذلك وفعل هذا في واسط وخوزستان من البلاد وكان هذا فنًا من الحمق لم ينقل مثله‏.‏

ولما فرغت خلع السلطان سأل العميد أبو الحسن أن يجلس الخليفة جلوسًا عامًا لذلك فجلس يوم الخميس سابع جمادى الآخرة في البيت المستقبل بالتاج المشرف على دجلة وأوصل إليه الوزير فخر الملك وتقدم بإيصال العميد والقاضي أبي عمر فدخـلا فشافههمـا بتوليـة عضـد الدولة واستدعى اللواءين فعقدهما بيـده وسلمـت الخلـع بحضرتـه ورتـب للخـروج بالخلـع أبـو الفوارس طرد الزينبـي وأبـو محمـد التميمـي وموفـق الخـادم وكتـب معهـم إلـى السلطـان كتـاب بتوليته ولقب العميد شيخ الدولة ثقة الحضرتين ولقب نظام الملك قوام الدين والدولة رضى أمير المؤمنين وهو يذكر في تلك البلاد بخواجا بزرك‏.‏

وفـي يـوم الجمعـة الثانـي عشـر مـن شعبـان‏:‏ هجـم قـوم مـن أصحـاب عبـد الصمد على أبي علي بن الوليد المدرس لمذهب المعتزلة فسبوه وشتموه لا متناعه من الصلاة في الجامع وتدرسيه لهذا المذهب فقال لهم‏:‏ لعن الله من لا يؤثر الصلاة ولعن الله من يمنعني منها ويخيفني فيها‏.‏

إيماء إليهـم وإلـى أمثالهـم من العوام لما يعتقدونه في أهل هذا المذهب من استحلال الدم ونسبتهم إلى الكفر وأوقعوا به وجرحوه وصاح صياحًا خافوا اجتماع أهل الموضع معه عليهم فتركوه ثم أغلق بابه واتصل اللعن للمعتزلة في جامع المنصور وجلس أبو سعد بن أبي عمامة فلعن المعتزلة‏.‏

وفي يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من رمضان‏:‏ جمع أبو عبد الله بن جردة البيع جمعًا عظيمًا من الضعفـاء ليتصـدق عليهـم فكثروا فمنهم بواب باب المراتب فأثخنوه ضربًا فقرق على نحو مائتي نفـس قميصـًا ودرهمين ثم كثر الجمع وجاء النفاطون والركابية فخافهم على نفسه فرمى الثياب والدراهم عليهم ومضـى فازدحمـوا فمـات خمسـة رجـال وأربـع نسـوة وصـار الرجـل إذا لقـي الرجل فيقول‏:‏ كنت في وقعة ابن جردة فيقول‏:‏ الحمد الله على سلامتك‏.‏

وفي شوال‏:‏ ورد الخبر بغزاة السلطان أبي الفتح الروم وأنه دخل بلدًا عظيمًا كان لهم فيها سبعمائة ألف دار وألف بيعة ودير وقتل به ما لا يحصى وأسر خمسمائة ألف منهم‏.‏

وفي ذي القعدة‏:‏ وكان تشرين الأول وامتد إلى تشرين الثاني‏:‏ حدث وباء عظيم وتفاقم بنهر الملـك وتعـدى إلـى بغـداد وكـان فيهـا حـر شديـد وفسـاد هـواء وزيادة إنداء وعدم التمر الهندي حتى بلغ الرطل منه أربع دنانير وكذلك الشير خشك‏.‏

وخلـع فـي ذي القعـدة علـى النقيـب أبـي الغنائـم المعمـر بـن محمـد بـن عبيـد اللـه العلوي في بيت النوبة وقلد نقابة الطالبيين والحج والمظالم ولقب بالطاهر ذي المناقب وقرىء عهده في الموكب‏.‏

عبد الواحد بن علي بن برهان أبو القاسم النحوي كان مجودًا في النحو وكان له أخلاق شرسة ولم يلبس سراويللًا قط ولا قبل عطاء أحد كان مجودًا‏.‏

وذكر محمد بن عبد الملك قال‏:‏ كان ابن برهان يميل إلى المرد الصباح ويقبّلهم من غير ريبة‏.‏

قال المصنف‏:‏ وقوله‏:‏ من غير ريبة أقبح من التقبيل لأن النظر إليهم ممنوع منه إذا كان بشهوة فهل يكون التقبيل بغير شهوة‏.‏

قـال ابـن عقيـل‏:‏ وكـان يختـار مذهب المرجئة المعتزلة وينفي خلود الكفار ويقول‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها أبدًا‏}‏ أي‏:‏ أبدًا من الآباد وما لا غاية له لا يجمع ولا يقبل التثنية فيقال‏:‏ أبدان وآبـاد‏.‏

ويقـول‏:‏ دوام العقـاب فـي حـق مـن لا يجـوز عليـه التشفي لا وجه مع ما وصف به نفسه من الرحمة وهو إنما يوجد من الشاهد لما يعتري الغضبان من غليان دم قلبه طلبًا للانتقام وهذا مستحل في حقه سبحانه وتعالى‏.‏

قال ابن عقيل‏:‏ هذا كلام يرده على قائله جميع ما ذكره وذلك أنه أخذ صفات البارىء في صفات الشاهد وذكر أن المثير للغضب ما يدخل علـى قلـب الغضبـان البـارىء فـي صفـات الشاهد وذكر أن المثير للغضب ما يدخل على قلب الغضب مـن غليـان الـدم طلبـًا للانتقـام وأوجـب بذلـك منـع دوام العقـاب حيث لا يوجد في حقه سبحانه التشفي والشاهد يرد عليه ما ذكره وذلك أنه أخذ صفات البارىء في صفات الشاهد وذكر أن المثير للغضـب مـا يدخـل على قلب الغضبان من غليان الدم طلبًا للانتقـام وأوجـب بذلـك منـع دوام العقـاب حيـث لا يوجد في حقه سبحانه التشفي والشاهد يرد عليه ما ذكره لأن المانع من التشفي عليه الرأفة والرحمة وكلاهما رقة طبع وليس البارىء بهذا الوصف وليس الرحمة والغضب من أوصـاف المخلوقيـن بشـيء وهذا الذي ذكره من عدم التشفي كما يمنع الدوام يمنع ابتداء العقوبة إذا كان المحيل الدوام من عدم التشفي وفورة الغضب وغليان الدم كما يمنع دخوله في الدوام يمنع دخول ه عليه ووصفه به فينبغـي بهـذه الطريقـة أن يمنـع أصـل الوعيـد ويحليـه فـي حقـه سبحانه كسائر المستحيلات عليه لا يختلف نفس وجودها ودوامها فلا أفسد اعتقادًا ممن أخذ صفات الله تعالى من صفاتنا وقاس أفعاله على أفعالنا وأي أوصافه تلحق بأوصافنا‏.‏

قـال المصنـف‏:‏ وكـان ابـن برهـان يقدح في أصحاب أحمد ومن يخالف اعتقاده اعتقاد المسلمين إذ كلهم أجمعوا على خلود الكفار في النار ولا ينبغي أن يؤثر قدحه في أحد‏.‏

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة وقد أناف على الثمانين‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ أن أهل باب البصرة قلعوا باب مشهد العتيقة وأخذوه ليلًا وكان من حديد فبحث عمن فعله حتى عرف وأخذ منه‏.‏

وفيها‏:‏ أن السلطان ألب أرسلان نفذ إلى عميد الملك تركيًا فقتله‏.‏

وفي جمادى الأولى‏:‏ عقد مسعود الرازي الحنفي حلقة بجامع المنصور وحضرها قاضي القضاة الدامغانـي وجماعـة الشهـود إلا القاضي أبا يعلى والشريف أبا جعفر فإن قاضي القضاة استدعاهما فلم يحضرا ولم يفارقا حلقتهما‏.‏

وفي ليلة الثلاثاء ثالث رمضان‏:‏ انقض كوكب عظيم وانبسـط نـوره كالقمـر ثـم تقطـع قطعـًا وأسمع دويًا مفزعًا‏.‏

وفيهـا‏:‏ خـرج جماعـة من الحاج بحفز فعدوا بهم فرجعوا إلى الكوفة بعد أن خاصموهم في ثامن ذي القعدة‏.‏

وفي ذي الحجة‏:‏ بدىء بعمل المدرسـة النظاميـة ببغـداد ونقـض لأجـل بقيـة الـدور الشاطيـة وتوفي أبو منصور بن بكران حاجب الباب فولي مكانه أبو عبد الله المردوسي‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

محمد بن أحمد بن محمد بن علي أبو الحسين ابن الآنبوسي الصيرفي ولد سنة ست وسبعين وثلثمائة ورى عن الدارقطني وغيره وتوفي هذه السنة وصلى عليه في جامع الشرقية ودفن في مقبرة باب حرب‏.‏

محمد بن منصور وزير طغرلبك أبو نصر الكندريّ وكان يلقب عميد الملك منسوب إلى ‏"‏ كندر طريثيت قريق من قراها وقد ينسب الكندري إلى قرية يقال لها كندر قربيًا من قزوين ومنها‏:‏ أبو غانم وأبو الحسن ابنا عيسى بن الحسن الكندري سمعا أبا عبد الرحمن السلمي وكتبا تصانيفه ووقفا كتبًا كثيرة‏.‏

وينسب الكندري إلى بيع الكندر منهم‏:‏ عبد الملك بن سليمان أبو حسان سمع حسان بن إبراهيم ذكره أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر‏.‏

وكـان الكنـدري له فضل وله شعر وكان طغرلبك قد بعثه ليتزوج له امرأة فتزوجها هو فخصاه طغرلبك ثم أقره على خدمته فلما مات وتمكن ألب أرسلان بعثه إلى مرو الزود فقيل له‏:‏ انه لا يؤمن فبعث غلمانًا لقتله فدخلوا عليه فقال له أحدهم‏:‏ قم فصل ركعتين وتب إلى الله تعالى‏.‏

فقـال‏:‏ أدخـل أودع أهلـي ثـم أخـرج‏.‏

فقالوا‏:‏ افعل فنهض فدخل إلى زوجته وارتفع الصياح وعلق الجواري به نشرن شعورهن وحثون التراب على رؤوسن فدخل الغلام فقال‏:‏ قم‏.‏

قال‏:‏ خذ بيـدي فقـد منعنـي هـؤلاء الجواري من الخروج فخرج إلى مسجد هناك فصلى فيه ركعتين ثم مشى حافيًا إلـى وراء المسجـد فجلـس وخلـع فرجيـة سمـورًا عليـه فأعطاهـم إياهـا وخـرق قميصه وسراويله حتى لا يؤخذا فجاءوا بشاروفه فقال‏:‏ لست بعيار ولا لص فأخنق والسيف أروح لي‏.‏

فشدوا عينيه بخرقة خرقها هو من طرف كمه وضربوه بالسيف وأخذوا رأسه وتركوا جثته فأخذتها أخته فحملتها إلى كندر بلده وكان عمره نيفًا وأربعين سنة‏.‏

أبو منصور بن بكران الحاجب قد ذكرنا وفاته‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها أن أهل الكرخ أغلقوا دكاكينهم يوم عاشوراء وأحضروا نساء فنحن على الحسين عليه السلام على ما كانوا قديمًا يستعملونه واتفق أنه حملت جنازة رجل من باب المحول إلى الكرخ ومعها الناحية فصلى عليها وناح الرجال بحجتها على الحسين وأنكر الخليفة على الطاهر أبي الغنائم المعمـر بـن عبيـد اللـه نقيـب الطالبيـن تمكينـه مـن ذلـك فذكر أنـه لم يعلم به إلا بعد فعله وأنه لما علم أنكره وأزاله فقيل له‏:‏ لا تفسح بعدها في شي من البدع التي كانت تستعمل‏.‏

واجتمع في يوم الخميس رابع عشر المحرم خلق كثير من الحربية والنصرية وشارع دار الرقيق وباب البصرة والقلائين ونهر طابق بعد أن أغلقوا دكاكينهم وقصدوا دار الخلافة وبين أيديهم الدعاة والقراء وهم يلعنون أهل الكرخ واجتمعوا وازدحموا على باب الغربة وتكلموا من غبر تحفظ في القول فراسلهم الخليفة ببعض الخدم أننا قد أنكرنا ما أنكرتم وتقدمنا بـأن لا يقـع معاودة ونحن نغفل في هذا ما لا يقع به المراد‏.‏

فانصرفوا وقبض على ابن الفاخر العلوي في آخرين ووكل بهم في الديوان وهرب صاحب الشرطة لأنه كان أجاز لأهل الكرخ وإيقاع الفتنة ثم واصل أهل الكرخ التردد إلى الديوان والتنصل مما كان والاحتجاج بصاحب الشرطة وأنه أمرهـم بذلـك والسـؤال فـي معنـى المعتقلين فأخرج عنهم في ثامن عشر المحرم بعد أن خرج توقيع بلعن من يسب الصحابة ويظهر البدع‏.‏

وفـي شهـر ربيع الأول بباب الأزح صبية لها رأسان ووجهان ورقبتان مفترقتان وأربع أيد على بدن كامل ثم ماتت‏.‏

وفـي هـذا الشهـر‏:‏ مـرض الأميـر عدة الدين أبو القاسم وتعدى ذلك إلى الخليفة جده ولحق الناس من الانزعاج والارتياع أمر عظيم لأنه لم يكن بقي من يلتجأ إليه غير هذا الجناب فتفضل الله تعالى بعافيتهما فاجتمع العوام إلى باب الغربة داعين وشاكرين الله تعالى على نعمه

وفي العشـر الـأول مـن جمـادى الأولـى‏:‏ ظهـر فـي السمـاء كوكـب كبيـر لـه فـي المشـرق ذؤابـة عرضهـا نحـو ثلاثة أذرع وطولها أذرع إلى حد المجرة من وسط السماء مادة إلـى المغـرب ولبـث إلـى ليلـة الأحد لست بقين من هذا الشهر وغاب ثم ظهر في ليلة الثلاثاء عند غروب الشمس قد استـدار نـوره عليه كالقمر فارتاع الناس وانزعجوا ولما أعتم الليل رمى ذؤابة نحو الجنوب وبقي عشرة أيام حتى اضمحل‏.‏

ووردت كتب التجار من بعد بـأن ستـة وعشريـن مركبـًا خطفـت مـن سواحـل البحـر طالبـة لعمان فغرقت في الليلة الأخيرة من طلوع هذا الكوكب وهلك فيها نحو من ثمانية عشر ألف إنسان وجميع المتاع الذي حوته وكان من جملته عشرة آلاف طبلة كافور‏.‏

وفي جمادى الآخرة‏:‏ كانت زلزلة بخراسان لبثت أيامًا فصدعت منها الجبال وأهلكت جماعة وخسفت بعدة قرى وخرج الناس إلى الصحراء وأقاموا هناك‏.‏

وفـي يـوم الأحـد تاسـع جمـادى الآخـرة‏:‏ خلـع فخـر الدولـة أبـي نصـر بـن جهيـر بعـد أن شافهـه بمـا طـاب قلبه ورفع من متبته‏.‏

وفي هذا اليوم‏:‏ عند مغيب الشمس وقع حريق بنهر معلى في دكان خباز فاحترق من باب الجديد إلى آخر السوق الجديد في الجانبين وتلف من المال والعقار ما لا يحصى ونهب الناس بعضهم بعضًا وكان الذي احترق مائة دكان وثلاثة دور‏.‏

وفي شعبان‏:‏ وقع قتال في دمشق فضربوا دارًا كـان مجـاورًا للجامـع بالنـار فاحتـرق جامـع دمشق‏.‏

وفي شعبان‏:‏ ذكر رجل من أهل سوق يحيى يقال له‏:‏ أخو جمادى وكانت يده اليسرى قد خبثت وأشرف على وأشرف على قطعها أنه رأى النبي صلى الله ليه وسلم في منامه كأنه يصلـي فـي مسجد بدرب داود فدنا منه وأراه يده عليها فأصبح معافى وانثال الناس لمشاهدتـه وكـان يغمـس يـده فـي المـاء فيقتسمونـه وستأتـي قصتـه مستوفـاة في السنة التي مات فيها إن شاء الله تعالى‏.‏

ورخصـت الأسعـار في هذه السنة رخصًا متفاحشًا حتى صار الكر الجيد من الحنطة بعشرة دنانير‏.‏

وفـي ليلـة الأحـد لأربـع بقين من شعبان‏:‏ انقض كوكبان كان لأحدهما ضوء كضوء القمر وتبعهما في نحو ساعة بضعة عشر كوكبًا صغارًا إلى نحو المغرب‏.‏

وفي رمضان‏:‏ نقص الماء من دجلة فاستوعبه القاطول وتعلق نهر الدجيل عليه فهلكت الثمار وزادت الأسعار وامتنعت السفن من عكبرا وأنا من الانحدار فكـان أقـوام يعبـرون إلـى أوانـا بمداساتهم على الآجر وغارت المياه في الآبار ببغداد‏.‏

وفي هذا الشهرر‏:‏ كسي جامع المنصور وفرش بالبواري فدخل فيه أربع وعشرون ألف ذراع بواري ثلثمائة منًا خيوط وأخذ الصناع الخياطين لها أجرتهم عشرين دينار‏.‏

وفي شوال‏:‏ أنفذ خادم خاص إلى السلطان للتهنئة بسلامته في غزوته وإقامة تشريفات عليه وأضيف إلى الخادم أبو محمد التميمي ورسم لهما الخطاب فيما يستعمله النظام مع الحواشي الدار من التعرض لما في أيديهم والخطاب على التقدم إلى السيدة أرسلان خاتون بالمسير إلى

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى أبو بكر البيهقي ولد سنة أربع وثمانين وثلثمائة وكان واحد زمانه في الحفظ والإتقان حسن التصنيف وجمع علـم الحديـث والفقـه والأصـول وهـو مـن كبـار أصحـاب الحاكـم أبـي عبـد الله ومنه تخرج وسافر وجمع الكثير وله التصانيف الكثيرة الحسنة وحمع نصوص الشافعي رضى الله عنه في عشر مجلدات وكان متعففًا زاهدًا وورد نيسابور مرارًا وبها توفي ونقل تابوته إلى بيهق في جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏

الحسن بن غالب بن علي بن منصور بن صلعوك أبو علي التميمي ابن المبارك ولد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وستسن وثلثمائة وصحب ابن سمعون‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ كان الحسن ابن غالب زوج بنت إبراهيم بن عمر البرمكي وحدّث عن عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري وابن أخي

ميمي وغيرهما وكان له سمت وهيئة وظاهـر صلـاح وكـان يقـرىء فأقـر بحـروف خـرق بهـا الإجماع وادعى فيها رواية عن بعض الأئمة المتقدمين وجعل لها أسانيد باطلة مستحيلة فأنكر أهـل العلم عليه ذلك إاى أن استتيب منها وذكر أنه قرأ على إدريس المؤدب وإدريس قرأ على ابـن شنبـوذ وابـن شنبـوذ قـرأ علـى أبيـي خالد وكل ذلك باطل لأن ابن شنبوذ لم يدرك أبا خالد وإدريس لم يقرأ على ابن شنبوذ وادعى أشياء غير ذلك يتبين فيها كذبه واختلافه‏.‏

وقال أبو علي ابن البرداني‏:‏ كان الحسن بن غالب متهمًا في سماعه من أبي الفضل الزهري وجـرت لـه أمـور مـع أبـي الحسن القزويني بسبب قراآت أقرىء بها عن إدريس وكتب عليه بذلك محضر‏.‏

وقال أبو محمد بن السمرقندي‏:‏ كان كذابًا‏.‏

وتوفي في ليلة السبت العاشر من رمضان هذه السنة ودفن صبيحة تلك الليلة عند قبر إبراهيم الحربي‏.‏

عبد العزيز بن محمد بن الحسين بن محمد بن الفضل أبو القاسم القطان سمع المخلص وكان يسكن دار القطن وكان صدوقًا وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة‏.‏

محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد

ولـد فـي محـرم سنـة ثمانين وسمع الحديث الكثير وحدّث عن أبي القاسم بن حبابة وأول ما سمع مـن أبـي الطيـب بـن علي بن معروف البزاز وعلي بن عمر الحرابي وأملى الحديث وهو آخر من حـدّث عـن أبـي القاسـم موسى السراج وكان عنده مصنفات قد تفرد بها منها كتاب الزاهر لابن الأنبـاري فإنـه حـدّث بـه عـن ابـن سويد عنه‏.‏

وكتاب المطر لابن دريد وكتاب التفسير ليحيى بن سلام وغير ذلك وكان من سادات الثقات وشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا والدامغاني فقبلاشهادته وتولى النظر في الحكم بحريم دار الخلافة وكان إمامـًا فـي الفقـه لـه التصانيـف الحسـان الكثيرة في مذهب أحمد ودرس وأفتى سنين وانتهى إليه المذهب وانتشرت تصانيفـه وأصحابـه وجمـع الإمامـة والفقـه والصـدق وحسـن الخلـق والتعبـد والتقشف والخشوع وحسن السمت والصمت عما لا يعني واتباع السلف‏.‏

حدثنـا عنـه أبـو بكـر بـن عبد الباقي وأبو سيعد الزوزني‏.‏

وتوفي في ليلة الإثنين وقت العشاء ودفن يوم الإثنين لعشرين من رمضان هذه السنة وهو ابن ثمان وسبعين سنة وغسله الشريف أبـو جعفـر بوصيـة إليـه وكـان مـن وصيتـه إليـه أن يكفـن في ثلاثة أثواب وأن لا يدخل معه القبر غير مـا غزلـه لنفسـه مـن الأكفـان ولا يخـرق عليـه عليـه ثـوب ولا يقعـد لعـزاء واجتمـع لـه خلـق لا يحصون وعطلت الأسواق ومشى مع جنازته القاضي أبو عبد الله الدامغاني وجماعة الفقهاء

والقضاة والشهود ونقيب الهاشميين أبو الفوارس طراد وأرباب الدولة وأبو منصور بن يوسف وأبو عبد الله ابن جردة وصلى عليه ابنه أبو القاسم عبيد الله وهو يؤمئذ ابن خمس عشرة سنة وكان قد خلف عبيد الله وأبا الحسن وأبا حازم وأفطر جماعة ممن تبعه لشدة الحر لأنه دفن في اليوم الثالث عشر من آب وقبره ظاهر بمقبرة باب حرب‏.‏

قال أبو علي البرداني‏:‏ رأيت القاضي أبا يعلى فقلت له‏:‏ ياسيدي مافعل الله بك فقال لي وجعل يعد بأصابعه‏:‏ رحمني وغفـر لـي ورفـع منزلتـي وأكرمنـي‏.‏

فقلـت‏:‏ بالعلـم فقـال لـي‏:‏ بالصدق‏.‏